بين
الواقع والفانتازيا: ذاكرة الثورة ووعي الثوار
قراءة
في رواية
((قبل أن أنسى
أني كنت)) هنا للكاتب إبراهيم عبد المجيد
د. علاء نجدي أبو
المجد
دكتوراه في الأدب
العربي – ك. دار العلوم - ج. الفيوم
أولًا:
الواقع/بين الثائر والسلطة
لقد احتوت رواية (قبل أن أنسى أني كنت هنا) على ضمير
الإنسان المصري المعاصر، الثائر، الذي خرج في ميدان التحرير ينادي: (عيش، حرية،
عدالة اجتماعية، عيش حرية، كرامة إنسانية)، وفي الرواية نجد روح الكاتب؛ الروائي
المبدع الأستاذ إبراهيم عبد المجيد، الذي عاصر ثورة الخامس والعشرين من يناير، وعايش
كل مراحلها بدءًا من انطلاق المظاهرات، والهبَّة الشعبية في وجه الظلم والفساد
والاستبداد، ثم رأى بعينه بوادر نجاح الثورة، ثم في لحظة الحلم بانتصار الثورة،
بدأت قوى الظلام والثورة المضادة تلتف على الثورة ومطالبها، وشيئًا فشيئًا بدأت
مطالب الثورة ومبادئها في التلاشي والذوبان.
وإننا من خلال قراءة الرواية نجد أنها تشتغل على محاور
ثلاثة؛ أولها: ذاكرة الثورة التي تلح على الكاتب، من خلال سرد الوقائع والأحداث
التي حدثت إبان الثورة في ميدان التحرير والأماكن المحيطة به، وثانيها: الإحساس
بالحزن والأسف؛ بسبب عدم القصاص للشهداء من قتلة الثوار، وكأن دماء الشهداء قد
ذهبت هدرًا، مما قد يستوجب اللعنة على البلاد والعباد، أما المحور الثالث: فهو محور
نلمحه في بعض مقاطع الرواية، حيث عدم تحقيق أحلام الثورة ومطالبها.
1 - ضمير الثورة/الحزن على الشهداء
في الرواية بدا ضمير الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد
منشغلًا بأمر الشهداء، حزينًا على فقدهم، وقد زاد حزنه بسبب عدم القصاص لدمائهم،
وكأن أرواحهم قد فارقت الحياة هدرًا، ومن ثم نجد ذكراهم حاضرةً في ذهنه، وكأنهم
أحياء يعيشون بين جنبات وجدانه، فعبَّر عن تلك الحياة في الرواية من خلال عدة
شخصيات ترسم لنا حزن الأهل والأحبة على فقد أحبائهم؛ بدءً من البطل نور الحزين على
وفاة حبيبته (نادين) التي استشهدت في يوم جمعة الغضب، والزوجة (نجوان) التي فقد
حبيبها (طارق)، ووالد الشهيد (سامح بكير)، و(حسن العبودي)، الرجل الخمسيني الذي
فقد ابنته، والمرأة الغريبة التي قُتِلت ابنتها، وأجبرتها الشرطة أن توقع على
شهادة تفيد أن ابنتها ماتت ميتة طبيعية.
فقضية الشهداء وفقدهم كانت من أهم القضايا المركزية في
الرواية، وقد بدا السارد مهمومًا بالشهداء، حزينًا لمصيرهم، ويشعر بالأسى لضياع
حقوقهم، وعدم القصاص والأخذ بثأرهم، وكان ثمة هاجس بأن دماء الشهداء لعنة تصيب
البلاد، وتوشك أن تجلب الغضب على الناس، يقول
الراوي على لسان نور بطل الرواية: "حاصرني من جديد هاجس أن كل ذلك يمكن أن
يرتفع إلى السماء تاركًا الأرض الظالمة لظالميها يبابًا" (الرواية ص14).
فقد بدا
السارد مهمومًا بهموم الوطن والثورة، ومآل الثوار، ومصير الشهداء الذين يبدو أن
دماءهم قد أريقت هدرًا، فبدا حزينًا آسفًا، مما كان له الأثر على أحداث الرواية،
وتحميلها بالكثير من الفانتازيا، والأمور العجيبة، والأحداث الغريبة التي تحدث، وتعبر
عن الحزن؛ بسبب البراءات التي نالها قتلة الشهداء، وقد
عبَّر الكاتب عن حزنه على هؤلاء الشهداء من خلال توجيه السرد تجاه
الحديث عنهم، وملابسات استشهادهم، وأثر فقدهم على أهلهم وذويهم، وأيضًا من خلال
حديث الشهداء لشخصيات الرواية، أو رؤيتهم كأنهم أحياء في بعض الأماكن.
وقد بدأ ظهور الشهداء الأحياء في وجدان أبطال الرواية
منذ الصفحات الأولى؛ حيث نجد أن بطل الرواية (نور) يتلقى مكالمة عجيبة من حبيبته
(نادين) التي برغم موتها، فإنها حادثته في مكالمة هاتفية، وسألته عن سبب تأخيره في
الاتصال بها، والسؤال عنها، وبعد انتهاء المكالمة يتذكر أن زوجته (نادين) استشهدت
يوم الثامن والعشرين من يناير، في يوم الغضب وكأن الشهيدة في هذه المكالمة
الهاتفية تكلمه من العالم الآخر، عالم الشهداء الذين بدا للسارد أنهم يعيشون بيننا
ولم يرحلوا عن دنيانا، وينتظرون منا أن نقتص لدمائهم، ونحقق مطالبهم الثورة الذين
ضحوا بأرواحهم فداءً لها، "انتهت المكالمة. وقفت أشعر أن عيني اتسعتا إلى
آخرهما. من التي كانت تحدثني حقًا؟ نادين ماتت. مضت ست سنوات تقريبًا على موتها"
(ص4).
ومثلما حدث مع
(نور قنديل) بطل الرواية وتحدثت إليه زوجته الشهيدة (نادين)، فإن (حامد شحاته)
صديق (نور) قد هاتفه صديقه (جابر نبوي) الذي استشهد يوم الثامن والعشرين من يناير،
فكتب تغريدة على موقع تويتر يقول فيها: "إن مكالمة جاءته في وسط الليل، فرد
عليها فوجد من يحدثه هو صديقه جابر نبوي. جابر نبوي كما تعرفين استشهد يوم 28
يناير أيضا" (ص26).
ثم انتشر الخبر، وشاع أن أكثر من شخص يؤكد أنه قد
جاءته مكالمات هاتفية من شهداء الثورة يتصلون بأصدقائهم وبعض من أهلهم، ويمكن
القول إن كلام الشهداء واتصالهم بأحبائهم من الأمور العجائبية التي اعتمد عليها
السارد في بناء عالمه الحكائي في الرواية، وكأن اتصالهم الهاتفي هو نوع من التواصل
الروحي بين الثوار وبين الشهداء الذين يعيشون في وجدانهم؛ فالشهداء لم يفارقوا
عالمنا، ولم يموتوا، بل أحياء داخل الثوار يتنفسون، وفي ضمائرهم يعيشون، ويرون
عالمنا، ويعرفون مصير الثورة ومآل الأحداث، ومن ثم فهم يهاتوفون أحبائهم، وذويهم.
2 - الوعي بالقضايا والمشكلات
السياسية
كان الأدب وسيظل – بلا شك – مرآة الواقع، وأداة
التعبير عنه، والحديث عن مشكلاته وأزماته، وفي رواية (قبل أن أنسى أني كنت هنا)
نجد في أحداثها مرآةً تعكس بعض ملامح الواقع، وتعبيرًا عن الأوضاع السياسية
والاجتماعية لمصر في الفترة التي تلت الثورة، فحرص الراوي على سرد كتير من الوقائع
والأحداث التي عاصرها الثوار وجموع الشعب المصري في تلك الحقبة المليئة بالتناقضات
ما بين الأمل الذي كان وليدًا، والواقع الذي أصبح مريرًا؛ بسبب عدم تحقيق أهداف الثورة،
والدعوة إلى الإصلاح ووضع البلاد على المسار الصحيح، بيد أن الواقع كان على غير
المرجو والمأمول كما تبين بعض مقاطع الرواية، مثل قوله على لسان نور: "انشغلت
بمتابعة فيسبوك وتويتر من هاتفي النقال، لا أخبار جديدة، القبض على عصابة تتاجر في
الأعضاء البشرية، القبض على تاجر يبيع أطعمة فاسدة. القبض على عدد من ضباط الشرطة
يتعاونون مع تاجر مخدرات، رئيس الجمهورية يشترك في سباق بالدراجات مع طلاب المدرسة
العسكرية، الحكم بالمؤبد على خمسة وعشرين طالبا بتهمة التعاطف مع الإرهاب. ارتفاع
كبير في سعر الدولار. مجلس الشعب يوافق على ضريبة جديدة على المبيعات. القبض على
عشرة شبان يقفون يحملون لافتات مكتوب عليها "لسَّاها ثورة يناير"(ص9).
من خلال المقتبس السابق نرى البعد السياسي والاجتماعي
الذي انطلقت منه الرواية؛ فعبَّرت عنه، وتناولت المشكلات السياسية، وأثر غياب الديموقراطية، يقول الراوي على لسان (نجوان)
في حوارها مع زوجها نور: "الحقيقة هزيمة سبعة وستين كانت لأن عبد الناصر كان
حاكمًا عسكريًا وأطاح بالديمقراطية، الديكتاتورية لا تأتي إلا بالخراب، هل نسيت
لماذا قمنا بثورتنا؟" (ص71).
وفي الجانب المقابل فإن
الرواية أشارت أيضًا إلى طبقة النخبة والمثقفين باعتبارهم جزء من المشكلة بدلًا من
تقديم الحلول لمشكلات البلاد، يقول الراوي على لسان نور بطل الرواية: "أين هم
المثقفون؟ اليسار يجتمع كل أسبوع في مسجد عمر مكرم لتشييع واحد من أعلامه. واليمين
حالف يمين ما يسيب النظام أبدًا!!!" (الرواية ص72).
3 - الشرطة/عصا السلطة الغليظة
تغول الشرطة، وتعاملها الخشن،
واستخفافها أحيانًا ببعض فئات الشعب من أهم ملامح الواقع المعاصر، وقد عبر الراوي
عن ذلك الملمح من خلال بعض الأحداث والمواقف التي تقع للشخصيات، مثل القبض على نور
بطل الرواية وبعض التلاميذ، بادعاء أنهم الذين رسموا الجرافيتي على جدران المباني،
بواسطة ضابط شرطة يبدو عليه الحنق والغيظ الشديد بشكل غير المبرر، خاصة وقد عرف
أنه لا توجد رسوم على جدران الجامعة الأمريكية كما خيِّل إليه، لكن الضابط يصر أنه
رأى هذه الرسومات بعينه، فيرد عليه مأمور القسم "الذين اتصلت بهم أنت في
الأمن الوطني، أرسلوا من يخبرهم بالحقيقة، ولم يجدوا رسمًا واحدًا، اسمع: رئيس
فرنسا قادم غدًا ولا نريد أن نحتك بالعيال الهبل بتوع الثورة دلوقت، خلينا نشوف
الأهم. ومصيرهم عندنا برضه! "(الرواية ص37).
وقد تكرر في مقاطع الرواية،
وحوارات الشخصيات كثير من الأقوال التي تشير – ضمنًا أو صراحةً – إلى بطش السلطة
وقمعها المتظاهرين والمعترضين على نظامها الموضوع، وقد وضح هذا في قول حامد صاحب
دار نشر (ورد وفل): "علينا أن نؤمن بذلك حتى نستريح، ليس أمامنا غير ذلك،
لكني أخشى ألا تؤمن الدولة بذلك وتقبض على أبرياء كثيرين. أجل، لذلك لم أكن أحب أن
تأتي إلى هنا اليوم يا نجوان، لم أقل لك ذلك حين أخبرتني، لأني أتصور أن هواتفنا
كلها تحت المراقبة منذ أن قبض علينا أمس، ولم أشأ أن أنقل لهم خوفي"(ص60).
وهذه الصورة السلبية للشرطة
باعتبارها أداة السلطة في فرض النفوذ على الشعب، فتنكل بالثوار والمعترضين
والخارجين على النظام، تكررت كثيرًا باعتبارها مرآة للواقع المعيش، ومن ذلك موقف
يعبر عن رؤية المواطنين للشرطة: "ورآها شاب تعود فقال: أول مرة الشرطة تجيب
حق حد. وقال آخر: وبالغلط كمان، فضحك المجتمعون"(ص66).
فكلام المواطنين المجتمعين
يعبِّر عن مجمل تمثيل الشرطة في الرواية، فهو تمثيل سلبي، وفي موضع آخر عبَّر
الراوي عن سبب النظرة السلبية للشرطة؛ بأنها حادت عن وظيفتها الحقيقة؛ حماية
الناس، إلى وظيفة أخرى انشغلت بها؛ حيث القبض على المتظاهرين، وقمع الثوار، يقول
الراوي: "لص للهواتف، ولصوص أطفال، وحملة أمنية على المقاهي تطارد شباب فيسبوك!
كل ذلك في يا مصر الآن، فلماذا تبقى الأشجار؟ ثم سمعت صرخات الناس في الشارع وهي
تعلن أن غضب الله حط على البلاد، فالأشجار تطير واقفة"(ص68).
فالمفارقة تكمن في انتشار
اللصوص وترويعهم المواطنين، بينما الشرطة مشغولة بمطاردة الثوار، والقبض على شباب
الفيس بوك، وقد كان توظيف ممارسات الشرطة في الرواية يهدف إلى الحديث عن قضايا
الحقوق والحريات، وقضايا مثل: حبس الأبرياء بلا ذنب، والتنكيل، والتعذيب،
والاختفاء القسري، وكلها قضايا مطروحة ومثارة في الرواية، وقد حرص الكاتب إبراهيم عبد
المجيد على كشف ممارسات الشرطة من خلال شخصية (حامد) صاحب دار النشر (فل وورد)،
فقد حُبِس أكثر من مرة، ودخل السجن بدون ذنب في المرة الأولى، وفي المرة الثانية
تم اقتياده وإخفائه قسريًا في مكان مجهول، ولما أفرجت عنه الشرطة، ألقت به في
ميدان التحرير وقت هروب الحيوانات المفترسة من حديقة الحيوان، ظنًا منها أن السباع
سوف تفتك به، ولما نجا من هذه الحيوانات، واستأنس بالأسد الذي صاحبه وذهب به إلى
شقته، ألقت الشرطة القبض عليه مرة أخرى، وفي هذه المرة بتهمة تهريب الحيوانات من
الحديقة؛ بهدف ترويع الناس والإخلال بالنظام.
ثانيًا:
العجائبية للخروج من الواقع المأزوم
لقد تلاحمت المتناقضات والمتنافرات في رواية (قبل أن
أنسى أني كنت هنا) للكاتب المبدع الأستاذ إبراهيم عبد المجيد لتشكيل عالم سردي
يعبر عن ضمير الثورة، فيستعيد ذكرياتها، ويبكي لشهدائها، ويعبر عن أحزان الثوار،
وأهل الشهداء.
وفي الامتزاج بين
الواقعية والفانتازيا، تركيبة عجيبة فريدة من نوعها، في خلطة سردية أبدع الكاتب
إبراهيم عبد المجيد في حبْكِها، وَمَزَجَها بالحس الإنساني لأشخاص عاصروا أحداث
الثورة، وعاينوا واقعها، وعاشوا مرارة الحزن والألم لفقد الأحبة الذين استشهدوا،
فالرواية تعد بمثابة مرثاة، وبكائية على الشهداء، وإننا من خلال القراءة نجد أن الكاتب قد وظَّف العجائبية للتعبير عن فكرة تلح على
رأسه باعتباره شاهدًا على زمن الثورة وأحداثها، وما دام الثوار قد عجزوا عن الأخذ
بالقصاص، فالاستنجاد بالقدر والقوى الخارقة التي تنتقم للشهداء، هو الحل البديل،
يقول الراوي على لسان شخصية نجوان: "أنا لست خائفة الآن، أنا أعرف أن هناك
انتقامًا يحدث من ممن قتلوا أصحابنا. أشعر بأن الأمور ستزداد تعقيدًا، وربما تنتهي
مرحلة هروب الأشجار إلى هروب الأعمدة ثم سقوط البيوت، هل يمكن أن تنهدم البلاد على
من فيها؟"(الرواية ص52).
1 - الأشجار المتهاوية/الطائرة
بكاء الأشجار وسقوطها على
الأرض، ثم طيرانها في السماء من الفانتازيا والأمور العجائبية التي اشتملت عليها
الرواية، وهي ظاهرة عجيبة يمكن تفسيرها في إطار حالة الحزن على مصير الثورة، وعدم
الأخذ بالقصاص للشهداء، ففي معركة الحرية، وفي خضم الصراع بين الثورة والثورة
المضادة، بدت القوى غير متوازنة، بين الشباب الثوار الذين لا يملكون سوى حناجرهم
التي يهتفون بها، في مقابل الثورة المضادة التي تمتلك من أسباب القوة الغاشمة،
فقتلت الشهداء، وعجز الثوار عن القصاص لهم، وقد بدا السارد وكأنه يستنجد بالقوى
الخارقة، والفانتازيا للتعبير عن العجز أمام الواقع، فالأشجار في هذا الإطار رمز
للخطر الداهم الذي قد يحل بالبلاد إذا لم تتحقق العالة ويتم القصاص للشهداء.
فقد بدا ضمير الكاتب
إبراهيم عبد المجيد مهمومًا بقضية الشهداء، ودمائهم الني ذهبت هدرًا، فتخيلهم في صورة
أشجار تسقط الندى على العابرين أسفل منها، والندى الذي تخيله ما هو إلا دموع
الشهداء وأنينهم، وشكواهم بسبب ضياع حقوقهم، يقول الراوي في حوار بين (نور) وضابط
شرطة: "سيارة شرطة كانت تجري في الشارع الخالي، نزل منها ضابط شاب، ينظر إلى
الشجرة ويقول: أخيرًا وقعت الشجرة الملعونة". نظرت إليه مندهشًا. قلت: لا بد
أنها شجرة عجوز.
- ربما، لكنها كانت مسحورة. بعد أن ينتصف الليل كل
ليلة يسمع منها الناس صوت بكاء. هل ترى هذه المياه حولها؟
- إنه ندی.
- لا ليس ندى. إنها دموع"(الرواية ص6).
لقد كثرت أحاديث الناس،
وتواترت الروايات
حول الشجر الذي يبكي ويئن على الشهداء، ثم
ما يلبث أن تقع هذه الأشجار وتسقط متهاوية على الأرض، "هذا ما قاله أيضا أحد
الشبان للناس، كان هناك من السكان من يريد خلع الشجرة، لكن تصدى له أكثر من رجل
وامرأة بعد أن سمعوا كلام الشاب. قالوا لن يقطع الشجرة أحد، هذه الشجرة تبكي على
أولادهم الذين قتلهم البوليس يوم 28 يناير. أجل، هكذا سمعت أن أمين شرطة حصل على
البراءة من المحكمة، وكان قد قتل العديد من الشباب في هذا الشارع!" (الرواية ص28). والملاحظ
في هذا المقطع أن الراوي قد ربط بين الأشجار المتهاوية وبين أرواح الشهداء التي
سقطت في أحداث الثورة، فكانت كل شجرة تسقط ترمز إلى روح شهيد أو شهيدة ارتقى في
يناير.
وتتصاعد الأحداث، ويزداد عدد
الأشجار التي تُقْلتَع، وبدلًا من السقوط على الأرض، إذا بها تطير في الجو، فتزيد
أحداث الرواية توترًا واشتعالًا، وتشعر الشخصيات الخوف والرعب والاضطراب، وكما طارت
الأشجار في القاهرة، فإن الأشجار أيضًا طارت في الإسكندرية وطنطا والجيزة، ومختلف
ربوع البلاد، (انظر الرواية ص73 -123).
فبكاء الأشجار وطيرانها صورة
تعبر عن الحس الفانتازي العجائبي؛ لتعكس الواقع السياسي المشحون بالظلم وتغول
السلطة على المواطنين، فيسجن من يسجن ظلمًا، ويقتل الأبرياء بلا ذنب اقترفوه، "وصرخت
امرأة: إلى أين ستذهب هذه الأشجار؟ فأجابتها امرأة أخرى تبكي وهي تجيب: إلى الله،
حيث يعيش الأطهار. وتزداد بكاء، وهي تقول: يا رب كنا ننتظر رحمتك بيننا من زمان،
ماتخليش على الأرض ظالم؛ بنتي مش قادرة أنساها، بنتي أخذتها من المشرحة مضروبة
بالرصاص وخلوني أمضي على إقرار إنها موتة طبيعية"(ص124).
2 - الرسومات التي تعاود الظهور
اللوحات الزيتية (الجرافيتي)
التي رسمها فنانو الثورة على الجدران أثناء أحداث يناير، من أهم الملامح التي
ارتسمت في وعي الثوار، فكانت بمثابة الحلم والأمل الذي يرسم على وجه المستقبل الذي
يتمناه الثوار، بيد أن هذه اللوحات والرسومات قد تمت إزالتها من الجداران بفعل
السلطة بعد الثورة، ومن الأمور العجائبية التي رسمها الكاتب إبراهيم عبد المجيد في
الرواية أننا نجد هذه الرسومات قد عادت إلى الظهور على الجدران وارتسمت بفعل فاعل
مجهول، يقول الراوي واصفًا ظهور هذه الرسومات: "أنا الآن
في شارع محمد محمود، الشارع تقريبا خال من السيارات المارة، لكني رأيت رسومات
الجرافيك التي مسحتها المحافظة كلها مرسومة على حائط الجامعة الأمريكية. نفس وجوه
الشهداء القديمة، لقد اقتربت منها فلم أجد شيئا، ابتعدت إلى الرصيف الآخر فرأيتها
تعود"(ص21). وكما رأى نور هذه الرسومات قبل أن تختفي، فإن والد الشهيد (سامح بكير) من شخصيات
الرواية التي رأت هذه الرسومات تظهر مرة أخرى (ص33).
من خلال القراءة المتعمقة
لرمزية هذه الصور المرسومة على الجدران، يتبين لنا أنها تشير – رمزًا – إلى روح
الثورة الكامنة التي تخشاها السلطة، وتحذر أن تعود مرة أخرى، وقد أبدع الكاتب في
رسم هذه الصورة؛ فهي تظهر وتختفي، وفي البداية لا يراها إلا رجال الشرطة، أما غالب
الناس فلا يرونها أول الأمر، وكأن روح الثورة أمر وعته السلطة وتخافه وتحذر منه،
فهي تعمل على عدم تكراره مرة أخرى، أما معظم الشعب لا يرون هذه اللوحات المرسومة
في البداية، وكأنها قد غلفت عن ثورتها وحلمها في التغيير.
3 - الحيوانات المفترسة/ المستأنسة
لقد زاد توتر الرواية وتصاعدت
الأحداث، وزادت الأمور الفانتازيا وتصاعدت العجائبية؛ حيث هربت الحيوانات من حديقة
الحيوان بالجيزة، الأسود والنمور، والذئاب والثعالب والزرافات، وغيرها من
الحيوانات، فرَّت جميعها، وانطلقت في الشوار، مما أدى إلى انتشار الخوف، وامتلأت
القلوب بالرعب، فسادت حالة من الذعر؛ بسبب مشاهدة الحيوانات في الشوارع ومحطات
المترو، وتستمر العجائبية، فنجد غزالة تقف في وسط الشارع، فيفتح لها عامل المقهى
الباب، ويتقدم إليها، ويمسكها من قرونها، فتطيعه، وتتقدم معه، دون خوف أو محاولة
الهرب.
وإننا من خلال قراءة الرواية
قراءة ثانية، نجد أن الحيوانات المفترسة (الأسود والنمور والفهود) التي ظهرت في
ميدان التحرير وقتلها القناصة، لم تؤذ الناس، أو تفتك بهم، بل إن أحد الأسود
استجاب للمرأة ومشى معها مسالم، ويمكن القول إن هذه الأسود ربما تعد رمزًا يشير
إلى جموع الشباب الثائرين، الذين خرجوا في أحداث الثورة وامتلأ بهم ميدان التحرير
في ثورة هادرة، بيد أن النظام قد قام بترويضهم بعد قتل بعضهم، بالقتل العشوائي من
قبل القناصة؛ نستجلي ذلك من تساؤل بطل الرواية: "لماذا إذن تم قتل الحيوانات
ما دامت مسالمة؟ سألت نفسي: ألم ير القناصة المرأة وهي تمشي بالأسد في اطمئنان؟ لا
بد من أن الموضوع الآن مثار على الإنترنت، على الأقل من سكان الميدان المحاصرين في
بيوتهم. فتحت صفحة فيسبوك من موبايلي، ووجدت من كتب: (امرأة مجهولة تمسك بأسد
فيمشي معها، وتخرج من الميدان إلى شارع محمد محمود، ولا يعرف أحد أين اختفت)، تعليقات
لا تصدق وتعليقات ضحك وتعليق يسأل أسئلتي (لماذا والمرأة استطاعت أن تصحب الأسد
يتم إطلاق النار على بقية الحيوانات؟ لماذا يتم قتل المسالمين دائما؟)" (ص109).
4 - المرأة الغامضة/الأم التي لا تنسى
أبناءها
شخصية (المرأة الغامضة/امرأة
الزاوية الحمراء) التي تحتفظ بالشهداء في مكان سري، استعدادًا للوقت المناسب
لإطلاقهم؛ ليأخذوا بثأرهم ممن قتلهم، من الفانتازيا والسرد العجائبي في الرواية؛
فقد حرص السارد على توظيف تلك الشخصية ذات الأقوال والأفعال العجيبة الغريبة، والقوى
الخفية، والقدرات الساحرة التي تستطيع أن تفعل بها ما عجز عنه الثوار، فقد رآها
(نور) "ترسم أحد الشهداء على ورقة بيضاء، ثم تركت الورقة بهدوء على الأرض فخرج
من بينها الشهيد طفلًا صغيرًا يمشي حولنا لا يشعر بنا، قالت: لا تخف، أستطيع أن
أعيده إلى عمره الحقيقي، لكن لن أفعل ذلك الليلة، سأفعله يوم أقرر أن أعيدهم جميعا
إلى الحياة، ثم أتركهم في الشارع يبحثون عن قاتليهم لينتقموا منهم" (ص92).
فهذه المرأة العجيبة، التي
تحفظ أسرار الشهداء، وأسماءهم، وصورهم، تستطيع أن تعيدهم إلى الحياة، وقد رسمها
الكاتب في صورة غامضة، وكأنها تمتلك صندوقًا سحريًا يحوي أسرار الثورة والشهداء، ويتطور
الأمر وتتصاعد الفانتازيا، وتزداد الدراما والأحداث العجائبية المرتبطة بشخصية امرأة
الزاوية الحمراء، ففي وقت خروج الحيوانات وهروبها من الحديقة وانطلاقها في الشوارع
والميادين، ووصولها إلى ميدان التحرير، يفاجأ بطل الرواية بهذه المرأة وقد سارت
بين السباع والحيوانات المفترسة، فلا تخاف من الأسود والنمور، بل إن أحد هذه
الأسود يطيعها، ويسير خلفها، فتدخله الشقة التي تخفي فيها صور الشهداء، وتتركه
يحميهم؛ خوفًا على صور الشهداء من أشخاص يدخلون الشقة فيحرقون صورهم، فلا تستطيع
إعادتهم للحياة مرة أخرى.
من خلال قراءة الرواية،
ومتابعة الخط الدرامي فيها، وتتابع الأحداث يتبين لنا أن الكاتب قد قام بتوظيف صورة
المرأة العجيبة/امرأة الزاوية الحمراء باعتبارها رمزًا يشير إلى ضمير الثورة ووعي
الثوار الذين يتذكرون الشهداء، ويبكون لفراقهم، ويتألمون لعدم القصاص لهم، وأخذ
ثأرهم والانتقام من قاتليهم، فهذه المرأة تحفظ أسماء الشهداء، وتعرف أعدادهم في كل
محافظة من محافظات مصر، بل إنها تعرف أسماء الذين قتلوهم، بل إنها تتوعد أن القصاص
قادم لا محالة "وقالت أيضا: لكن تأكد أن الله بالمرصاد، لقد بدأ الله
برحيل الأشجار، الأيام المقبلة سترى رحيل الأشجار عن كل هذه الأحياء وغيرها مما
لم أقله لك، وعندما تعرف أن شجرة طارت في شارع ما أو بلد ما مما لم أذكره لك، فاعرف
أن جوارها قُتل شهيد" (ص118).